والصحيحُ العموم في التكاليف، وعرضُها يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الله خلق لها إدراكاً فعرضت عليها الأمانة حقيقةً فأشفقت منها وامتنعت من حلمها، والثاني: أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة وأنها من الثقل بحيث لو عُرضت على السموات والأرضِ والجبال، لأبين من حملها وأشفقن منها، فهذا ضربٌ من المجاز كقولك: عرضتُ الحمل العظيم على الدابة فأبتْ أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله ﴿وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ أي وتحمَّلها الإِنسان إنه كان شديد الظلم لنفسه، مبالغاً في الجهل بعواقب الأمور، قال ابن الجوزي: لم يرد بقوله ﴿أبَيْنَ﴾ المخالفة، وإنما أبين للخشية والمخافة، لأن العَرض كان تخييراً لا إلزاماً ﴿لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ قال ابن كثير: أي إنما حمَّل بني آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر، والمشركين الذين ظاهرهم وباطنهم على الكفر ﴿وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات﴾ أي ويرحم أهل الإيمان، ويعود عليهم بالتوبة والمغفرة والرضوان ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي واسع المغفرة للمؤمنين حي عفا عما سلف منهم، ورحيماً بهم حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِضافة للتشريف ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾ لأنها لمّا نسب للنبي تشرفت.
٢ - الطباق بين ﴿ادخلوا.. و.. انتشروا﴾ وبين ﴿تُبْدُواْ.. و.. تُخْفُوهُ﴾ وبين ﴿ثقفوا.. و.. أُخِذُواْ﴾.
٣ - طباق السلب ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق﴾.
٤ - ذكر الخاص بعد العام ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون.. والمرجفون﴾ والمرجفون هم المنافقين، فعمَّم ثم خصَّص زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم.
٥ - ذكر اللفظ بصيغة «فعول» و «فعيل» للمبالغة مثل ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ ﴿على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ الخ.
٦ - الإِتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد ﴿وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً﴾ ﴿وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾.
٧ - التحسر والتفجع بطريق التمني ﴿يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا﴾.
٨ - التشبيه ﴿لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى﴾ ويسمى التشبيه المرسل المجمل.
٩ - الإِستعارة التمثيلية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال﴾ مثَّل للأمانة في ضخامتها وعظمها وتفخيم شأنها بأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال وهي من القوة والشدة بأعلى المنازل لأبت عن حملها وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.
١٠ - المقابلة اللطيفة بين ﴿لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات﴾ وبين ﴿وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات﴾ وفي ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع «رد العجز على الصدر» لأن بدء السورة كان في ذم المنافقين، وختامها كان في بيان سوء عاقبة المنافقين، فحسن الكلام في البدء والختام.


الصفحة التالية
Icon