الفواكة الطيبة بسبب العمارة، فإذا تكرت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها، فتقل الثمار وتكثر الأشجار قال المفسرون: وتسمية البدل «جنتين» فيه ضربٌ من التهكم، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة ﴿ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إنما كان بسبب كفرهم ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ ؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إلا الكافر المبالغ في كفره، قال مجاهد: أي ولا يعاقب إلا الكفور، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته، والكافرُ يجازى بكل سوءٍ عمله ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمين إلى الشام، يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إلى منزلن ومن قرية إلى قرية ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار، قال الزمخشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخفاون شيئاً ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ إخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة، وملوا العافية، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فعجَّل الله إجابتهم، بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً ﴿وظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي جعلناهم أخباراً تُروى اللناس بعدهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي وفرقناهم في البلاد شذر ومذر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء، شاكر في النعماء، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حلّ بمن قبلهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي تحقق ظن إبليس اللعين في هؤلاء الضالين، حين ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم، وأقسم بقوله:
﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩] فتحقق ما كان يظنه، قال مجاهد: ظنَّ ظناً فكان كما ظن فصدَّق ظنَّه ﴿فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾ أي فاتبعه الناس فيما دعاهم إليه من الضلالة إلا فريقاً هم المؤمنون فإنهم لم يتبعوه، قال القرطبي: أي ما سلم من المؤمنين إلا فريق، وعن ابن عباس أنهم المؤمنون كلُّهم فتكون ﴿مِّنَ﴾ على هذا للتبيين لا للتبعيض، وإنما علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب، لأنه لمَّا نفذ له في آدم ما نفذ، غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته وقد وقع له تحقيق ما ظنَّ ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي وما كان لإِبليس تسلط واستيلاء عليهم بالوسوسة والإغواء {إِلاَّ لِنَعْلَمَ