إِنزاله فيها أنه أُنزل الى السماء الدنيا جملةٌ واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً بعد شيء، وقيل: المعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، قال القرطبي: ووصف الليلة بالبركة لما يُنزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ أي لننذر به الخلق، لأن من شأننا وعادتنا ألاَّ نترك الناس دون إِنذار وتحذيرٍ من العقاب، لتقوم الحجة عليهم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أي في ليلة القدر يُفصل ويُبيَّن كلُّ أمرٍ محكم من أرزاق العباد وآجالهم وسائر أحوالهم فلا يُبدَّل ولا يُغيِّر قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياةٍ، أو موت، أو رزقٍ قال المفسرون: إن الله تعالى ينسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر، وصالح وطالح، حتى إن الرجل ليمشي في الأسواق وينكحُ ويُولد له وقد وقع اسمه في الموتى ﴿أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ﴾ أي جميع ما نقدِّره في تلك الليلة وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد، هو أمرٌ حاصل من جهتنا، بعلمنا وتدبيرنا ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أي نرسل الأنبياء إلى البشر بالشرائع الإِلهية لهدايتهم وإرشادهم ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي من أجل الرأفة والرحمة بالعباد قال في البحر: وضع الظاهر ﴿رَّبِّكَ﴾ موضع الضمير «رحمةً منا» إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوال العباد، العليمُ بأفعالهم وأحوالهم ﴿رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ أي الذي أنزل القرآ، وهو ربُّ السمواتِ والأرض وخالقهما ومالكهما ومن فيهما، إن كنتم من أهل الإِيمان واليقين ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه، لأنه المتصف بصفات الجلال والكمال، يُحيي الأموات، ويميت الأحياء ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ أي وهو خالقكم وخالق من سقبكم من الأمم الماضين قال الرازي: والمقصودُ من الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء، كان المُنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ أي ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإِيمان في قولهم: اللهُ خالقنا، بل هم في شكٍ من أمر البعث، فهم يلعبون ويسخرون ويهزءون قال شيخ زاده: التفت من الخطاب للغيبة فقال ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ تحقيراً لشأنهم، وإيعاداً لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك والامتراء، وكونُ أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق والباطل، والضار والنافع، ثم لما بيَّن أن شأنهم الحماقة والطغيان التفت إلى حبيبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسليةً له، وإقناطاً من إيمانهم فقال ﴿فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي فانتظر يا محمد عذابهم يوم تأتي السماءُ بدخانٍ كثيف، بيّنٍ واضح يراه كل أحد قال ابن مسعود: إن قريشاً لما عصت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم فقال:
«اللهم اشدُد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يُحدِّث أخاه فيسمع صوته ولا يراه لشدة الدخانا المنتشر بين السماء والأرض،