والحب ذُو العصف} أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإخراج الثمار ﴿والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان﴾ أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان ﴿والريحان﴾ أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلْ، والياسمين وما شاكلها قال في البحر: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكَّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البشر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله ﴿ذُو العصف﴾ تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمهم من ورقه وهو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتفكه، وما به يُتقوَّت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله علكيم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر
«أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ إلا قالوا: لا بشيءْ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد». ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال ﴿خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار﴾ أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم ﴿مِن صَلْصَالٍ كالفخار﴾ وفي سورة الحجر ﴿مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] أي من طين أسود متغير، وفي الصافات ﴿مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ [الصافات: ١١] أي يلتصق باليد، وفي آل عمران ﴿كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] ولا تنافي بينهما، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور ههنا آخر الأطوار ﴿وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصً لا دخان فيه من لنار قال ابن عباس: ﴿مِن مَّارِجٍ﴾ أي لهبٍ خالص لا دخال فيه وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث
«خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم» ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي نعم الله يا مشعر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ ﴿رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين﴾ أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله ﴿الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ﴾ ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي


الصفحة التالية
Icon