غالباً ﴿قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ﴾ أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب ﴿إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩] ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين﴾ أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال ﴿إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي إذا قيل لهم قولوا ﴿لاَ إله إِلاَّ الله﴾ يتكبَّرون ويتعظَّمون ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى رداً عليهم ﴿بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين﴾ أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم «شاعر مجنون» فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ماينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي: لأن الشريكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة.. ولمّا ذكر شئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
. ثم أخبر عن جزائهم فقال ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾ أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله: ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ ﴿فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد: ﴿مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصً وتحابياً ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي: وصف به حمر الجننة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية ﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدر الرءوس، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف﴾ أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس: ﴿قَاصِرَاتُ الطرف﴾ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن ﴿عِينٌ﴾ أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون﴾ [الواقعة: ٢٢٢٣] وقال الحسن: ﴿المكنون﴾ المصون الذي لم تمسَّه الأيدي.. والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ لطفٍ ونعومة ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {على سُرُرٍ


الصفحة التالية
Icon