أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأن كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل ﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين قال في التسهيل: هذا ثناء من اله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنهم
﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى ﴿ابتدعوها﴾ أي أحدثوها من عند أنفسهم ﴿إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله﴾ أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع والمعنى ما كتبان عليهم الرهبانية، ولكنه فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي الحديث «لكل أمة رهبانية، ورهبانةي أمتي الجهاد في سبيل الله» ﴿فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثوابهم مضاعفاً ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [التوبة: ٣٤] ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ أي يعطكم ضعفين من رحمته ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله﴾ أي إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله ﴿لِّئَلاَّ﴾ زائدة والمعنى ليعلم المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردَّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ أي والله واسع الفضل والإِحسان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ -