اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن حديثهم يدور حول المكمر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك ﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله﴾ أي وإِذا أحضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم «السامُ عليكم» أي الموت عليكم قال المفسرون:
«كان اليهود يأتون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون: السامُ علكيم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: وعلكيم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السماُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقال يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها: أما سمعتِ ما قلت لهم؟ إِني قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يستجيب لهم فيَّ» ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ اي ويقولون فيما بينهم، هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمداً نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾ أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها ﴿فَبِئْسَ المصير﴾ أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبَه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف من سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعاقبهم ويرزقهم» فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم وتكريماً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمينِ.. ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ أي إِذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إِثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير، أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى﴾ أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإحسان قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه ﴿واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله ﴿إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي