أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة». وقال الحسن: واللهِ ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهُوا أن يأتوا الصلاة إِلا عليهم السكينة والوقار، ولكنه سعيٌ بالقلوب، والنية، والخشوع ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ذلك السعي إِلى مرضا الله، وتركُ البيع والشراء، خيرٌ لكم وأنفع من تجارة الدنيا، فإِن نفع الآخرة أجلٌّ وأبقى ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إن كنتم من أهل العلم القويم، والفهم السليم ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾ أي فإِذا أديتم الصلاة وفرغتم منها ﴿فانتشروا فِي الأرض﴾ أي فتفرقوا في الأرض وانبثوا فيها للتجارة وقضاء مصالحكم ﴿وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾ أي واطلبوا من فضل الله وإِنعامه، فإن الرزق بيده جلَّ وعلا هو المنعم المتفضل، الذي يُضيع عمل العامل، ولا يخيّب أمل السائل ﴿واذكروا الله كَثِيراً﴾ أي واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، باللسان والجنان، لا وقت الصلاة فحسب ﴿لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي كي تفوزوا بخير الدارين قال سعيد بن جبير: ذكرُ الله طاعته، فمن أطاع اللهَ فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكرٍ ولو كان كثير التسبيح.
. ثم أخبر تعالى أنَّ فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، ويفضلون العاجل على الآجل فقال ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ هذا عتابٌ لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتركوه قائماً يخطب يوم الجمعة، والمعنى: إِذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقةٍ قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إِليها، وأعاد الضمير إِلى التجارة دون اللهو ﴿انفضوا إِلَيْهَا﴾ لأنها الأهم المقصود ﴿وَتَرَكُوكَ قَآئِماً﴾ أي وتركوا الرسول قائماً على المنبر يخطب قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عيرٌ من الشام بطعام قدم بها «دحية الكلبي» وكان أصاب أهل المدنية جوعٌ وغلاء سعر وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهل المسجد إِليها، وتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائماً على المنبر، ولم يبق معه إِلا اثني عشر رجلاً قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم فنزلت الآية قال ابن كثير: وينبغي أن يعلم أن هذه القصة كانت لمَّا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما هو الحال في العيدين، كما روى ذلك أبو داود ﴿قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة﴾ أي قل لهم يا محمد: إنَّ ما عند الله من الثواب والنعيم، خير مما أصبتموه من اللهو والتجارة ﴿والله خَيْرُ الرازقين﴾ أي خير من رزق وأعطى، فاطلبوا منه الرزق، وبه استعينوا لنيل فضله وإِنعامه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة، كمثل الحمار الذي يحمل على ظهره الكتب العظيمة ولا يكون له منها إِلا التعب والعناء.