قال في التسهيل: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذه إشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعبتر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة ﴿والله مَوْلاَكُمْ﴾ أي واللهُ وليْكم ونارصكم ﴿وَهُوَ العليم الحكيم﴾ أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إِلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع بعض زوجاته فقال ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً﴾ أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى زوجاته حفصة خبراً واستكتمها إِياه قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وأفشته لها ﴿وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ﴾ أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الامين على إفشائها للسرِّ ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾ أي أعلمها وأخبرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلات التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام قال الخازن: المعنى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كره أن ينتشر ذلك في الناس ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه ﴿قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفيشتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها وكانتك قد استكتمتها فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبيت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير﴾ أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر


الصفحة التالية
Icon