وكان من أمره ما كان ﴿إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي لولا أن تداركته رحمة الله ﴿لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً ﴿فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾ أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه ﴿وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عَزَّ وَجَلَّ، ويؤيده حديث «لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» ﴿لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بعضهم وحسدهم لك، إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام.
البَلاَغَة: تمضنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الجناس الناقص بين لفظي ﴿مَجْنُونٍ﴾ و ﴿مَمْنُونٍ﴾ لا ختلاف الحرف الثاني.
٢ - الوعيد والتهديد ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ المفتون﴾ وحذف المفعول للتهويل.
٣ - صيغ المبالغة في ﴿حَلاَّفٍ، هَمَّازٍ، مَّشَّآءٍ، مَّنَّاعٍ﴾ وكذلك في ﴿أَثِيمٍ.. وزَنِيمٍ﴾.
٤ - الاستعارة القائمة ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ استعار الخرطوم للأنف لأن أصل الخرطوم للفيل، واستعارته لأنف الإِنسان تجعله في غاية الإِيداع لأن الغرض الاستهانة به والاستخفاف.
٥ - الطباق بين ﴿المسلمين والمجرمين﴾ وبين ﴿ضَلَّ.. والمهتدين﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٦ - جناس الاشتقاق ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾.
٧ - التقريع والتوبيخ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ ؟ والجمل التي بعدها.
٨ - التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبهاً والعكس ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ ؟ لأن الأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة؟ فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع.
٩ - الكناية الرائقة الفائقة ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ كناية عن شدة الهول، وتفاقم الخطب يوم القيامة.


الصفحة التالية
Icon