فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ أي فهل ترى أحداً من بقاياهم؟ أو تجد لهم أثراً؟ لقد هلكوا عن آخرهم كقوله تعالى ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ ﴿وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ﴾ أي وجاء فرعون الجبار، ومن تقدَّمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسلها ﴿والمؤتفكات﴾ أي والأمم الذين انقلبت بهم ديارهم قرى قوم لوط حيث جعل الله عاليها سافلها قال الصاوي: ﴿المؤتفكات﴾ أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط، التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها، وكانت خمس قرى ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أي بالفعلة الخائطة المنكرة، وهي الكفر والعصيان ﴿فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ أي فعصى فرعون رسول الله موسى، وعصى قوم لوطٍ رسولهم لوطاً ﴿فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ أي فأخذهم الله أخذةً زائدةً في الشدة، على عقوبات من سبقهم، كما أن جرائمهم زادت في القبح والشناعة على سائر الكفار ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾ أي لما تجاوز الماء حدَّه حتى علا كل شيء وارتفع فوقه حملناكم في السفينة ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ أي لنجعل تلك الحادثة عظةً للناس وعبرة، تدل على انتقام الله ممن كذَّب رسله ﴿وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أي وتحفظها وتذكرها أذن واعية للمواعظ، تنتفع بما تسمع قال القرطبي: والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولهذا ختم الآية بقوله ﴿وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ قال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزّ وجّل.
. ولما ذكر قصص المكذبين، أتبعه بذكر أهوال القايمة وشدائدها فقال ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي فإِذا نفخ إِسرافيل في الصور نفخةً واحدة لخراب العالم قال ابن عباس: هي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب الدنيا ﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها، فضرب بعضها ببعضٍ حتى تندق وتتفتَّت وتصير كثيباً مهيلاً ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة﴾ أي ففي ذلك الحين قامت القيامة الكبرى، وحدثت الداهية العظمى ﴿وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ أي وانصدعت السماء فهي يومئذٍ ضعيفة مسترخية، ليس فيها تماسك ولا صلابة ﴿والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾ أي والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون: وذلك لأن السماء مسكن الملائكة، فاذا انقشت المساء وقفوا على أطرافها فزعاً مما داخلهم من هو ذلك اليوم، ومن عظمة ذي الجلال، الكبير المتعال ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ أي ويحمل عرض الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس: ثمانية صفوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ أي في ذلك اليوم الرهيب، تعرضون على ملك الملوك ذي الجلال للحساب والجزاء، لا يخفى عليه منكم أحدٌ، ولا يغيب عنه سرٌّ من أسراركم، لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
. ثم بيَّن تعالى حال السعداء