فهلكوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسار ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً﴾ أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر قال الألوسي: ﴿وكُبَّاراً﴾ مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام ﴿وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ أي لاتتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ أي ولا تتركوا على جه الخصوص هذه الأصنام الخمسة وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع ﴿وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، ثم دعا عليهم بالضلال فقال ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً﴾ أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله ﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى ﴿مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران قال في التسهيل: وهاذ من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم، و ﴿ما﴾ في ﴿مما﴾ زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي ﴿فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً﴾ أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين قال في التسهيل: و ﴿دَيَّاراً﴾ من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال: ما في الدار ديار أي ما فيها أحد.
. ثم علل ذلك بقوله ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى ﴿وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر قال الإِمام الفخر: فإِن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ قلنا بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني إحذر فإِنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال ﴿وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾.. ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات، ليكون ذلك أبلغ وأجمع ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً﴾ أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.


الصفحة التالية
Icon