الصفة، وسبب هذا التزمل ما روي في الصحيح «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما جاءه جبريل وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي، وأخبرها بما جرى، فنزلت ﴿ياأيها المزمل﴾ » أي يا أيها الذي تلفف بقطيفته، واضطجع في زاوية بيته، وقد أشبه من يُؤثر الراحة والسكون، ويحاول التخلص مما كُلف به من مهمات الأمور ﴿قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي دع التزمل والتلفف، وانشط لصلاة الليل، والقيام فيه ساعات في عبادة ربك، لتستعد للأمر الجليل، والمهمة الشاقة، ألا وهي تبليغ دعوة ربك للناس، وتبصيرهم بالدين الجديد.. ثم وضَّح المقدار الذي ينبغي أن يصرفه في عبادة الله فقال ﴿نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ أي قم للصلاة والعبادة نصف الليل، أو أقل من النصف قليلاً، أو أكثر من النصف، والمراد أن تكون هذه الساعات طويلة بحيث لا تقل عن ثلث الليل، ولا تزيد على الثلثين قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله ﴿قُمِ اليل﴾ ثم نسخ بقوله تعالى ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ وكان بين أول هذا الوجوب ونسخه سنة، وهذه هي السورة التي نسخه آخرها أولها، حيث رحم الله المؤمنين فأنزل التخفيف عليهم بقوله ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ﴾ الآية ﴿وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً﴾ أي اقرأ القرآن أثناء قيامك في الليل قراءة تثبت وتؤده وتمهل، ليكون عوناً لك على فهم القرآن وتدبره، قال الخازن: لما أمره تعالى بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله، وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف، وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار، فسيتنير القلب بنور معرفة الله، والإِسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل، إنما هو حضور القلب عند القراءة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقطِّع القراءة حرفاً حرفاً أي يقرأ القرآن بتمهل، ويخرج الحروف واضحة لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ.
. ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم، وقيام الليل، وتدبر القرآن وتفهمه، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة، ذات التكليف الصعب الشاق فقال ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً


الصفحة التالية
Icon