بحكمه العادل بين السعداء والأشقياء، جمعناكم فيه مع من تقدمكم من الأمم لنحكم بينكم جميعاً ﴿فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ أي فإن كان لكم حيلة في الخلاص من العذاب فاحتالوا، وانقذوا أنفسكم من بطش الله وانتقامه إِن قدرتم، وهذا تعجيزٌ لهم وتوبيخ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك يومئذٍ للمكذبين بيوم الدين.. وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء المجرمين، أعقبه بذكر أحوال السعداء المتقين فقال ﴿إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ﴾ أي الذين خافوا ربهم في الدنيا، واتقوا عذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم القيامة في ظلال الأشجار الوارقة، وعيون الماء الجارية، يتنعمون في دار الخلد، والكرامة، على عكس أولئك المجرمين المكذبين، الذين هم في ظلٍ من يحموم وهو دخان جهنم الأسود الذي لا يقي حراً، ولا يدفع عطشاً، ولا يجد المستظل به مما يشتهيه لراحته سوى شرر النار الهائل ﴿وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي وفواكه كثيرة متنوعة مما يستلذون ويستطيبون ﴿كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي ويقال لهم على سبيل الأنس والتكريم: كلوا أكلاً لذيذاً واشربوا شرباً هنيئاً، بسبب ما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي إِنا مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من أحسن عمله، وأخلص نيته، واتقى ربه ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك ودمار للمكذبين بيوم الدين ﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ﴾ أي يقال للكفار على سبيل التهديد والوعيد: كلوا من لذائذ الدنيا، واستمتعوا بشهواتها الفانية، كما هو شأن البهائم التي همُّها ملء بطونها ونيل شهواتها زماناً قليلاً الى منتهى آجالكم، فإِنكم مجرمون لا تستحقون الإِنعام والتكريم ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك ودمار يوم القيامة للمذكبين بنعم الله ﴿وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ﴾ أي وإِذا قيل لهؤلاء المشركين صلُّوا لله، واخشعوا في صلاتكم لعظمته وجلاله، لا يخشعون ولا يصلون، بل يظلون على استكبارهم يصرون قال مقاتل: نزلت هذه الآية في ثقيف، امتنعوا عن الصلاة وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حطَّ عنا الصلاة فإِنا لا ننحني، إِنها مسبة علينا، فأبى وقال: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاكٌ ودمار يوم القيامة للمكذبين بأوامر الله ونواهيه ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟ أي فبأي كتابٍ وكلام بعد هذا القرآن المعجز الواضح يصدّقون إِن لم يؤمنوا بالقرآن؟ فإِذا كذبوا بالقرآن ولم يؤمنوا به، مع بلوغه الغاية في الإِعجاز، ونصوع الحجة، وروعة البيان، فبأي شيءٍ بعد ذلك يؤمنون؟ قال القرطبي: كرر قوله ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ عشر مراتٍ للتخويف والوعيد، وقيل: إِنه ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قولٍ منه غير الذي أراده بالآخر، كأنه ذكر شيئاً فقال: ويلٌ لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، وهكذا إِلى آخر السورة الكريمة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التأكيد بذكر المصدر زيادة في البيان وتقوية للكلام مثل ﴿فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً﴾ وهو من المحسنات اللفظية.
٢ - الطباق بين ﴿عُذْراً.. ونُذْراً﴾ وبين ﴿أَحْيَآءً.. أَمْواتاً﴾ وبين ﴿الأولين.. والآخرين﴾


الصفحة التالية
Icon