تفكر واعتبار، إلى أمر حياته، كيف خلقه بقدرته، ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته؟! ثم فصَّل ذلك فقال ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً﴾ أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾ أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً﴾ أي فأخبر بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات: حباً يقتات الناس به ويدخرونه، وعنباً شهياً لذيذاً، وسائر البقول مما يؤكل رطباً ﴿وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً﴾ أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل، يخرج منها الزيت والرطب والتمر ﴿وَحَدَآئِقَ غُلْباً﴾ أي وبساتين كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ أي وأنواع الفواكه والثمار، كما أخرجنا ما تراعاه البهائم قال القرطبي: الأبُّ ما تأكله البهائم من العشب ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ أي أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قال ابن كثير: وفي هذه الآيات امتنانٌ على العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة.
. ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة﴾ أي فإِذا جاءت صحية القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ﴾ أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه، من أخيه، أمه، وأبيه، وزوجته، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال في التسهيل: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه، ورتبهم على مرابتهم في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب، شأنٌ يشغله عن شأن غيره، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ «نفسي نفسي».. ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء، فقال في وصف السعداء: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور ﴿ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه، ومستبشرة بذلك النعيم الدائم ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد ﴿أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه، هم الجامعون بين الكفر والفجور، قال الصاوي: جمع الله تعالى إِلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في العتاب ﴿عَبَسَ وتولى﴾.
. ثم قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾ ؟ فالتفت تنبيهاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى العناية بشأن الأعمى.