التفسِير: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانه ربي الأعلى». ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال ﴿الذي خَلَقَ فسوى﴾ أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال في البحر: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم ﴿والذي قَدَّرَ فهدى﴾ أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإِفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إِليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به ﴿والذي أَخْرَجَ المرعى﴾ أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب ﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى﴾ أي فصيِّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً ياسباً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء و ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠] !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه.. وفي هذه الآية معجزة له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى﴾ أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ﴿وَنُيَسِّرُكَ لليسرى﴾ أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى﴾ أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله
﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا فتنة لبعضهم» وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله «؟ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾ أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾ أي ويرفضها


الصفحة التالية
Icon