كان الأمر كذلك فلا بدَّ من جزاء يُثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر، وقد دلت العقول السليمة على أنه لا بدَّ من جزاء ومعاد، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد مالُه وولدُه ونعيمُه ويموت دون عقاب، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدَّ في حكمه الحكيم العليم إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعيَّن أن هناك داراً أُخرى لهذا الجزاء والمواساة وهي الدار الآخرة.. ثم بيَّن تعالى الغاية من نزول القرآن وهي العمل والتفكير فقال ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ أي هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد كتابٌ عظيم جليل، كثير الخيرات والمنافع الدينية والدنيوية ﴿ليدبروا آيَاتِهِ﴾ أي أنزالناه ليتدبروا آياته ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة قال الحسن البصري: واللهِ ما تدبُّره بحفظ حروفه وإِضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: واللهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد أسقطه واللهِ كلَّه، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُق ولا عمل.
. اللهم اجعلنا ممن قرأه وتدبَّره وعمل بما فيه ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾ شروعٌ في بيان قصة سليمان بن داود عليهما السلام أي رزقنا عبدنا داود بالولد الصالح المسمَّى سليمان وأعطيناه النبوة قال المفسرون: المراد بالهبة هنا هبة النبوة كما قال تعالى ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] أي في النبوة، وإلا فقد كان له أولاد كثيرون غيره ﴿نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي نعم العبدُ سليمان فإنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد﴾ أي اذكر حين عُرض على سليمان عشية يوم من الأيام أي بعد العصر الخيل الواقفة على طرف الحافر، السريعة الجري قال الرازي: وُصفت تلك الخيل بوصفين: الأول: الصفون وهو صفة دالة على فضيلة الفرس، والثاني: الجياد وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً في جريها ﴿فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ أي آثرت حبَّ الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله قال المفسرون: عُرضت عليه آلاف من الخيل تركها له أبوه، فأُجريت بين يديه عيشاً فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكرٍ له حتى غابت الشمس ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ أي حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾ أي قال سليمان ردُّوا هذه الخيل عليَّ ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق﴾ أي فشرع يذبحها ويقطع أرجلها تقرباً إلى الله، لتكون طعاماً للفقراء لأنها شغلته عن ذكر الله قال الحسن: لما رُدَّت عليه قال: لا والله لا تشغليني عن طاعة ربي ثم أمر بها فعقرت وكذلك قال السدي، وأما قول من قال: إنها شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فضعيف، لأنه لا يتصور من نبيٍ أن يترك صلاة العصر من أجل اشتغالهع بالدنيا، والنصُّ صريح ﴿عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ


الصفحة التالية
Icon