ولا يخفضون رؤوسهم له قال ابن كثير: ومعنى الآية: إن جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، وكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق وقال أبو السعود: مثِّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم ﴿فَهِىَ إِلَى الأذقان﴾ أي فالأغلال منتيهةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطاطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً﴾ قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك ﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي فغظينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيُّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثل لسدِّ طرق الإيمان عليهم، بمد سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده ﴿وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قبله شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر ﴿لاَ يُؤمِنُونَ﴾ أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإيمان، وهذا تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكشف الحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ أي إنما ينفع إنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه ﴿وَخشِيَ الرحمن بالغيب﴾ أي وخاف الله دون أن يراه قال أبو حيان: ﴿وَخشِيَ الرحمن﴾ أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جلا وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى «بالغيب» أي بالخلوة عن مغيب الإِنسان عن عيون البشر ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ لما انتفع بالإنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرة عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إنما يكون في الجنة.
. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾ أي نبعهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء ﴿وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ﴾ قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال: «أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد والبقاع خالية فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» يا