ومحكومين، ملكاً تاماً شاملاً كاملاً، يحكمهم، ويضبط أعمالهم، ويدبّر شئونهم، فيعز ويذل، ويغني ويُفقر ﴿إله الناس﴾ أي معبودهم الذي لا ربَّ لهم سواه قال القرطبي: وإِنما قال ﴿مَلِكِ الناس إله الناس﴾ لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد مغيره فذكر إِنه إِلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب إن يستعاذ به ويُلجأ إِليه، دون الملوك والعظماء، وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإِبداع، وذلك لأن الإِنسان أولاً يعرف أن له رباً، لما يشاهده من أنواع التربية ﴿رَبِّ الناس﴾ ثم إِذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرفٌ في خلقه، غني عن خلقه فهو الملك لهم ﴿مَلِكِ الناس﴾ ثم إِذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يُعبد، لأن لا عبادة إِلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إِليه كل ما عداه ﴿إله الناس﴾ إِنما كرر لفظ الناس ثلاثاً ولم يكتف بالضمير، لإِظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قوله الشاعر:

لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء نغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا
قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الرب عَزَّ وَجَلَّ «الربوبية» و «الملك» و «الإِلهية» فهو ربُّ كل شيء ومليكه وإِله، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأُمر المستعيذُ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات ﴿مِن شَرِّ الوسواس﴾ أي من شر الشيطان الذي يلقي حديث السوء في النفس، ويوسوس للإِنسان ليغريه بالعصيان ﴿الخناس﴾ الذي يخنص أن يختفي ويتأخر إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن الله عاد فوسوس له وفي الحديث «إِن الشيطان واضح خطمه أنفه على قلب ابن آدم، فإِذا ذكر الله خنس، وإِذا نسي الله التقم قلبه فوسوس»
« ﴿الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس﴾ أي الذي يلقي لشدة خبثه في قلوب البشر صنوف الوساوس والأوهام قال القرطبي: ووسوستُه هو الدعاء لطاعته بكلام خفي يصل مفهومه الى القلب من غير سماع صوت ﴿مِنَ الجنة والناس﴾ ﴿مِنَ﴾ بيانية أي هذا الذي يوسوس في صدور الناس، هو من شياطين الجن والإِنس كقوله تعالى ﴿شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً﴾ [الأنعام: ١١٢] فالآية استعاذة من شر الإِنس والجن جميعاً، ولا شك أن شياطين الإِنس، أشدُّ فتكاً وخطراً من شياطين الجن، فإِن شيطان الجن يخنس بالاستعاذة، وشيطان الإِنس يزين له الفواحش ويغريه بالمنكرات، ويثنيه عن عزمه شيء، والمعصوم من عصمه الله.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الإِضافة للتشريف والتكريم ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الناس﴾ وفي الآيتين بعدها.
٢ - الأطناب بتكرار الاسم ﴿رَبِّ الناس مَلِكِ الناس﴾ زيادة في التعظيم لهم، والاعتناء بشأنهم، ولو قال (ملكهم، إِلههَم) لما كان لهم هذا الشأن العظيم.
٣ - الطباق بين ﴿الجنة﴾ و ﴿الناس﴾.
٤ -


الصفحة التالية
Icon