فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾ استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أنقال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ ﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ أي إن كان كذاباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه قاله القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى ﴿وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدم به من العذاب ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله قال الإِمام الفخر: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره وقال في البحر: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا «استدراج المخاطب» وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متمعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً﴾ ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثما قال ﴿أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾ ولم يقول رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيٌ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً﴾ فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله ﴿وَإِن يَكُ صَادِقاً﴾ ولم يقل هو صادق وكذلك قال ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْا ادعدى الألوهية والربوبية ﴿ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض﴾ كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا﴾ أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله قال الرازي: وإِنما قال ﴿يَنصُرُنَا﴾ و ﴿جَآءَنَا﴾ لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.
. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى﴾ أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾ أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب﴾ أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوع وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾ أي لا يعاقب