والذي يبدو أنّ القسم الثالث هو الأكثر حكمة من جهة العقل والمنطق؛ لأنّنا لا يمكننا أن نقول إنّ اللغة حقيقة كلها أو مجاز كلها، بل هي مشتملة على كل من الحقيقة والمجاز، واشترطوا في كل من الحقيقة والمجاز الاستعمال، فكيف بالمجاز الذي كان له معنى حقيقي، فمن البديهي أن يكون المجاز بعد الاستعمال؛ ((اللفظ يجوز خلوه عن الوصفين فيكون لا حقيقة ولا مجاز لغوياً، فمن ذلك الفظ في أول الوضع قبل استعماله فيما وضع له أو في غيره، وليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنّ شرط تحقق كل واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمال)) (١) وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الرسول الزيدي أنّ فخر الدين الرازي ذهب إلى أنّ الوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز، أمّا إنّه ليس بحقيقة فلأنّ شرطها أن يكون مستعملاً في موضوعه الأصلي، أي فيما وضعه الواضع بأزائه، وأمّا أنّه ليس بمجاز، فلأنّ شرطه أن يكون مستعملاً في غير موضوعه الأصلي وهو يقتضي أن يكون مسبوقاً بالوضع الأول. (٢).
وقد علّق الدكتور عبد الرسول الزيدي على هذا الموضوع قوله: (( وأرى أن السبب الذي قادهم إلى القول بأنّ الوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز وعلى وفق ما أبانوا عنه هو أنّهم عولوا على مسألة ((الاستعمال)) في تقرير أمر الحقيقة والمجاز، وكون الاستعمال يلي الوضع الأول، فإنّ صنيعهم هذا يعني أنّهم فصلوا بين الوضع الأول والاستعمال، وهو أمر يفتقر افتقاراً شديداً إلى المنطق اللغوي الذي يعضده، وينهض دليلاً عليه، إذ أنّ الاستعمال والوضع سوية، أو أقل ينبثقان معا وأن أحدهما مقترن بالآخر منهما شيء واحد وليس ثمة فصل بينهما في أيّة حال من الأحوال)) (٣).

(١). المزهر: ١/٣٦١.
(٢). البحث اللغوي عند فخر الدين الرازي: ٣٤٦، وينظر: نهاية الإيجاز: ٨٨.
(٣). البحث اللغوي عند فخر الدين الرازي: ٣٤٧.


الصفحة التالية
Icon