﴿والله خَيْرُ الرازقين﴾ فالتجارة من أسباب الرزق وليس اللهو فوضعها بجنبه. ولأنَّ العادةَ أنك إذا فاضلتَ بين أمور فإنك تبدأ بالأدنى، ثم تترقى فتقول: (فلان خير من فلان ومن فلان أيضاً)، وذلك كأن تقول: (البحتري أفضل من أبي فراس، ومن أبي تمام ومن المتنبي أيضاً)، فإنك إذا بدأتَ بالأفضل انتفت الحاجة إلى ذكر مَنْ هو أدنى، فبدأ باللهو لأنه ظاهر المذمة ثم ترقى إلى التجارة التي فيها كسب ومنفعة.
وكرر (من) مع اللهو ومع التجارة فقال: ﴿خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة﴾ ليؤذن باستقلالِ الأفضلية لكل واحد منهما لئلا يتصور أنَّ الذمَّ إنما هو لاجتماع التجارة واللهو، فإن انفراد اللهو أو التجارة خرج من الذم، فأراد أن يبين ذم كل منهما على جهة الاستقلال لئلا يتهاون الناسُ في تقديم ما يرضي الله وتفضيله. ونحو ذلك، أن تقول: (الأناةُ خيرٌ من التهور والعجلة) فإن ذلك قد يفهم أنها خير من اجتماعهما، ذلك لأن اجتماعهما أسوأ من انفرادهما فإنَّ الذي يجمع التهور والعجلة أسوأ ممن اتصف بإحدى الخلتين. فإن قلت: (الأناة خير من التهور ومن العجلة) أفاد استقلال كل صفة عن الأخرى، وأنها خير من أية صفةٍ منهما، فإن اجتمعتا كان ذلك أسوأ. فجاء بـ (من) ليؤذن باستقلال كل من اللهو والتجارة وأنه ليس المقصود ذم الجمع بين الأمرين بل ذم وتنقيص كل واحد منهما، بالنسبة إلى ما عند الله.
جاء في (روح المعاني) :"واختير ضمير التجارة دون اللهو، لأنها الأهم المقصود، فإن المراد ما استقبلوا به العِيرَ من الدف ونحوه. أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه...