تبين للباحث بعد هذا العرض أن الإثبات والحذف ظاهرتان لغويتان شاعتا في اللغة الحجازية، وقد ثبت أن الإثبات هو الأصل، وهذا يعنى أنه اللغة الأولى، وأن الحذف لغة ثانية، ويعد مظهرا من مظاهر التطور اللغوي نحو التخفيف، ولعل صادق ما يدلك على أن الحذف سمة من السمات اللغوية للقبائل الحجازية أن قراءة حفص قد اتسمت بهذه السمة، وأن لم تكن من سمات لغة الحجاز الخاصة، فقد اكتسبتها من لغة القبائل الأخرى ؛ ولعل هذا مما جعل قريشا تحتضن اللغة المشتركة، حتى نسبت إليها ؛ ويؤيد هذا قول عثمان :" إذا اختلفتم في شي، فاكتبوه بشأن قريش فإنه نزل بلسانهم".
ياءات الإضافة إسكانا وتحريكا:
ياء الإضافة ضمير يلحق الاسم والفعل والحرف، وله موقع إعرابي مع الثلاثة؛ فمع الاسم الجر كما في "عهدي"، ومع الفعل النصب كما في "بلغني"، ومع الحرف النصب كما في "إني" والجر كما في "لي"، والأصل فيها التحريك، وإسكانها تخفيفا(١).
وفي ضوء الدرس الصوتي الحديث يرى الباحث أن سبب التنوع بين التحريك والإسكان يرجع إلى المقاطع الصوتية ؛ فالإسكان يختصر عدد المقاطع، حيث يجعل التحريك صوت الياء يمثل مقطعا قصيرا، على حين يجعله الإسكان حركة طويلة للصوت السابق، فيكونان مقطعا صوتيا واحدا من النوع المتوسط المفتوح، فمثلا كلمة "بلغني" تتكون من خمسة مقاطع قصيرة حال التحريك، فإذا ما أسكنا الياء اختصرت المقاطع إلى أربعة ؛ رابعها متوسط مفتوح " ص م "، واختصار عدد المقاطع سمة من سمات التخفيف في اللهجات العربية، وربما امتازت بها لهجات قبائل شرق الجزيرة وفي مقدمتها لهجة تميم.
قراءة حفص وهذه الظاهرة :

(١) انظر : الكشف ١/٣٢٤. والجامع ٦/٤٨٩٥. وكان تحريكها بالفتح ؛ لأن الفتحة أخف الحركات. يقول إبراهيم مصطفي :" الفتحة هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يراد أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك ". إحياء النحو ٥٠


الصفحة التالية
Icon