ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله: ﴿وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً﴾ فقال: "وما ذَكَره من أنَّ "جَعَل" بمعنى صَيَّر في قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَة﴾ لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى" قلت: ليس المرادُ بالتصيير بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله- مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السموات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشريز وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلة التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السموات وإفراد الأرض. وقُدِّمت "الظلمات" في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور.
قوله: ﴿ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ "ثم" هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله "الحمد لله" وإما على قوله: "خلق السموات" قال الزمخشري: "فإن قلت: فما معنى "ثم"؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم" وقال ابن عطية: "ثم" دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره".
(٦/١١٧)
---