إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب "البين" بمعنى الوصل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين. قلت: فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً، ثم رَدَّه بكونه لم يُسْمع من العرب، وهذا منه غير مُرْضٍ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم. وقوله: "وإنما انتُزِع من هذه الآية" ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تؤذن بأنه مجاز، ووجه المجاز كما قاله الفارسي: أنه لمَّا استعمل "بين" مع الشيئين المتلابسين في نحو: "بيني وبينك شركَةٌ، وبيني وبينك رحم وصداقة" صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم". وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور.
وقال أبو علي أيضاً: "ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أنيكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى، ألا ترى أن المراد: وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين؟ قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو: "بيني وبينك شركة"، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره.
(٦/٣٣٢)
---


الصفحة التالية
Icon