وقوله: ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾، أي: لا تَزْجُرْهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ، ومنه "النَّهْر" لظهوره. وقال الزمخشري: "النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ".
* ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
قوله تعالى: ﴿جَنَاحَ الذُّلِّ﴾: هذه استِعارةٌ بليغة، قيل: وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين. قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ المعنى: واخفِضْ لهما جناحَك كما قال: "واخفِضْ جناحَك للمؤمنين" فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ. والثاني: أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله:
٣٠٥١- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ * إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما" انتهى. يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ، ثم استعار له جناحان، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح.
ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله:
٣٠٥٢- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني * صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْةٍ وقال له: أَعْطني شيئاً من ماء المَلام. فقال: حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ" يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك. وقال بعضهم:
٣٠٥٣- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى * فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
(٩/٣٤٢)
---