قوله تعالى: ﴿مَّنَاسِكَكُمْ﴾: جمعُ "مَنْسَك" بفتحِ السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُهما، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً. القُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً "مناسككم" ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو: ﴿جِبَاهُهُمْ﴾ و ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ الكافُ كالكاف في قوله ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ إلاَّ في كونِها بمعنى "على" أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ "آباءكم" مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: "آباؤكم" رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهُجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: "أباكم" بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري "أباك" ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.
قوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ يجوزُ في "أشد" أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على "ذكِركم" المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية.
والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: "أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه: "كذكركم" كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً" وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ "أشد" من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.
(٢/٣١٦)
---


الصفحة التالية
Icon