وليس المعول في هذا الباب على القراءات الصحيحة وحدها، لأنها ليست وحدها التي كان يقرأ بها المسلمون في بداية نزول الوحي. ولعل أول من ذهب إلى توظيف القراءات الشاذة في التفسير هو ابن جني في كتابه "المحتسب"، ولقد ساعده على الاهتمام بالقراءات الشاذة في تبيين وجوه المعاني معرفته الواسعة باللهجات العربية، واستنباطه لأسرار اللغة وتذوقه لطعوم الأساليب البلاغية. ومن فرط اهتمام ابن جني بالقراءات الشاذة كان ينزلها منزلة لا تقل أهمية عن القراءات المجمع عليها، بل إنه يرى أحيانا أنها مساوية في الفصاحة لها، فكان ينتصر للقراءة الشاذة حتى لا يظن ظان أن العدول عنها هو غض منها أو تهمة لها، فكان يقول :"ولسنا نقول ذلك فسحا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءتهم، أو تسويغا عما أقرته الثقات عنهم، لكن غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه، لئلا يُرى مُرىً أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له"(١). وقد اتخذ ابن جني القراءات الشاذة سبيلا إلى بيان فلسفة اللغة العربية، ومن خلال هذه الفلسفة ذهب إلى توجيهها وبيان خدمتها للتفسير.