ونستطيع القول بأنه لولا القراءات الشاذة لما تمكن الناس من فهم كثير من معاني المفردات القرآنية. وقد استطاع المفسرون منذ ابن عباس أن ينبهوا على أهمية هذا النوع من القراءات في التفسير، كما استطاعوا أن يجدوا في الآثار الأدبية وفي اللهجات العربية وفي طرق التعبير عند العرب ما يعينهم على تفسير القرآن الكريم. والأخبار التي رويت عن ابن عباس تشير إلى ابتكاره للتفسير اللغوي، وهو الذي كان يقول :"الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه(١)، وقد كان يستشهد بالشعر على التفسير، ويعزز ذلك بالنظر في لهجات العرب، وروي عنه كثير من ذلك في مسائل نافع بن الأزرق، وهي عبارة عن حلقات لتفسير القرآن بالشعر وبكلام العرب المأثور، كان يقيمها بفناء الكعبة، ويكتنفه الناس يسألونه المسائل(٢).
ومن المعروف أن القراء كانوا نحاة، فكما اشتهروا بالضبط والدقة والإتقان في ميدان القراءة اشتهروا كذلك بمعرفتهم الواسعة بالعربية ووجوهها، فكان ابن كثير إمام أهل مكة في الإقراء بدوم منازع، وكان أعلم بالعربية، وعرف عن عاصم أنه جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد، كما عرف عن حمزة أنه كان قيما بكتاب الله مجودا له، عارفا بالفرائض والعربية، وكان الكسائي أعلم الناس بالعربية والقرآن مع الصدق والأمانة والدين. وأما في الثلاثة المتممين للعشرة فكان يعقوب الحضرمي من أعلم الناس بالحروف والاختلاف في القراءات، وعلل هذا الاختلاف ومذاهبه ومذاهب النحو، وأروى الناس لحروف القرآن وحديث الفقهاء، وكان خلف البزار مشتغلا هو الآخر بالنحو إلى جانب اهتمامه الأصلي بالقراءة. فكيف يدعي أحد أن أمثال هؤلاء كانوا يتصرفون في القراءات من غير علم بالعربية ومذاهبها؟.
(٢) مسائل نافع بن الأزرق في الإتقان : ٢/٥٥-٨٨.