ولعل من المزالق التي جعلتهم يردون بعض القراءات، بالرغم من تواترها، كان هو اقتصارهم في وضع مقاييسهم النحوية على ما نزل من القرآن بلغة قريش وحدها دون سائر اللغات التي كانت سائدة إلى جانبها، كما أنهم اقتصروا أيضا على بعض النصوص الشعرية والنثرية التي نمت فيها قواعدهم وترعرعت، في حين تعتبر هذه النصوص في حقيقة الأمر مادة قليلة في نسج قواعد العربية، ولذلك جاءت هذه القواعد في مذهبهم مضطربة، تتعارض مع مقاييس أخرى ونصوص أخرى لم يتيسر لهم الإحاطة بها، فحكموا منطقهم في ذلك على ضوء ما استنبطوه من القواعد، وهو ما لم يسعفهم في كثير من القضايا اللغوية، فتشددوا في قبول القراءات التي لا تخضع لمقاييسهم، ولو كانت متواترة، وهذا خطأ، فقد غاب عن البصريين أن الاحتجاج بالقراءات يرجع بالأساس إلى اختلاف الألفاظ والحروف الذي مرجعه اختلاف اللهجات العربية، وكلها حجة، لكن البصريين أهملوا ذلك ولم يلتفتوا إليه، فخطأوا قراءات متواترة منقولة عن العرب الأقحاح، كابن عامر مقرئ أهل الشام، وحمزة الزيات مقرئ أهل الكوفة، ونافع مقرئ أهل المدينة، ورفضوا بعض قراءاتهم التي لا تتوافق ومقاييسهم في العربية. وهذا ما جعل العلماء ينعون على البصريين ما ذهبوا إليه في تخطئة القراء، لأنه ينبني على أقيسة ناقصة، لا تلزم القراءات أن تجري على موازينها وطرقها، لأنها واردة من أسانيد أقوى من أسانيد النصوص التي جمعها البصريون، ومن ثم رد أبو عمرو الداني على زعمهم بقوله :" وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها"(١).

(١) النشر في القراءات العشر لابن الجزري، دار الفكر : ١/٣٧


الصفحة التالية
Icon