ومما تفضي إليه معرفة القراءات معرفة إعراب القرآن، لأن من فوائده معرفة المعنى، فالإعراب يميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلم. أخرج أبو عبيد عن يحيى بن عتيق قال :" قلت للحسن : يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية، يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته. قال: حسن يا ابن أخي، فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها. وعلى الناظر في كتاب الله تعالى، الكاشف عن أسراره، النظر في الكلمة وصيغتها ومحلها، ككونها مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا، أو في مباديء الكلام، أو في جواب، إلى غير ذلك"(١).
وقد أفضت القراءات إلى معرفة الإعراب وضبطه، لأنها سببت في إثارة جدل كبير وحاد بين النحاة والقراء، وقد جعل النحاة قضية الإعراب قضية عظيمة الشأن، واتخذوها سلاحا لمقاومة كل مخالفة في اللغة، وإن كان الشعراء قد ثاروا عليهم، وتمكنوا من إقرار مخالفاتهم الشعرية التي قعدوا لها باسم الضرورة.
ثم قامت المناقشات الكبيرة بين النحاة والقراء بسبب الإعراب، حتى رمى النحاة القراء بالجهل، وذلك بسبب خروجهم عن قواعدهم وأصول إعرابهم، مع أن القراء يعتمدون النقل، ويؤولون بقراءاتهم إلى العصر الذي لا يشوبه اللحن ولا الخطأ، حيث المعين الصافي العذب للغة القرآن التي بها نزل.
وحسبي من طرق هذا الموضوع في القراءات المفسرة أني فتحت مجالا لما يسمى بالتفسير القرائي، وبينت أهمية هذا النوع من التفسير الذي لم يكد يستغن عنه كتاب في التفسير ولا في الفقه، ولا في معاني القرآن ولا في إعرابه. وإن هذا التفسير القرائي ليدل دلالة واضحة على أن تعلم القرآن وحفظه، والاجتهاد في تحرير النطق به، وإن كان مطلوبا وحسنا، لكن فوقه ما هو أهم منه وأولى وأتم، وهو فهم معانيه، والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه.

(١) الإتقان : ٢/٢٦٠


الصفحة التالية
Icon