ولما كان المعرض في وقت قد يقبل في آخر، دل على دوامه على وجه بليغ بقوله: ﴿ولم يرد﴾ أي في وقت من الأوقات ﴿إلا الحياة الدنيا *﴾ أي الحاضرة ليقصده بالمحسوسات كالبهائم في العمى عن دناءتها وحقارتها، ثم ترجم جملتي الإعراض والإرادة بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر المتناهي في الجهل والقباحة ﴿مبلغهم﴾ أي نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم، وتهكم بهم بقوله: ﴿من العلم﴾ أنه لا علم لهم لأن عيون بصائرهم عمي، ومرائبها كثيفة مظلمة لا تكشف عن نظر الآخرة التي هي أصل العلوم كلها، ثم علل هذه الجملة بقوله مؤكداً قطعاً لطمع من يظن أن وعظه وكلامه يرد أحداً من غيه وإن أبلغ في أمره ودعائه في سره وجهره، وإعلاماً بأن ذلك إنما هو من الله، فمن وعظ له سبحانه راجياً منه في إيمانه أوشك أن ينفع به كما فعل في وعظ مصعب بن عمير رضي الله عنه فصغى له أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في ساعة واحدة كما هو مشهور ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بالإرسال وغيره ﴿هو﴾ أي وحده ﴿أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ ضلالاً مستمراً، فلا تعلق أملك بأن يصل علمه إلى ما وراء الدنيا، وعبر بالرب إشارة إلى أن ضلال هذا من الإحسان إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لو دخل في دنيه لأفسد أكثر مما يصلح كما قال تعالى: ﴿ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ [التوبة: ٤٧] وذلك لأنه جبل جبلة غير قابلة للخير ﴿وهو﴾ أي وحده


الصفحة التالية
Icon