التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة.
ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان، فمدار خيانتهم على الوصف، فقال: ﴿لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ﴾ أي قرابة وأصلاً جيداً ثابتاً ﴿ولا ذمة﴾ أي عهداً أكيداً ﴿وأولئك﴾ أي البعداء من كل خير ﴿هم﴾ أي خاصة لتناهي عدوانهم ﴿المعتدون*﴾ أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على أن يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من أصحابه