ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله: ﴿ولو شاء ربك﴾ أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة ﴿لجعل الناس﴾ أي كلهم ﴿أمة واحدة﴾ على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ أي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى ﴿إلا من رحم ربك﴾ أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق. ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك: ﴿ولذلك﴾ أي الاختلاف ﴿خلقهم﴾ أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: ٥٦]


الصفحة التالية
Icon