وقد أجاب المجيزون عن الدليل الأول والثاني بقولهم: إنَّ الظنّ المنهي عنه هو الذي يؤخذ به مع إمكان الوصول إلى العلم اليقينيّ القطعيّ بأنْ يوجد نص قاطع من نصوص الشَّرع أو دليل عقليّ موصل إلى ذلك، أمَّا إذا لم يوجد شيء من ذلك، فالظنّ كافٍ هنا لاستناده إلى دليل قطعيّ من الله تعالى على صحة العمل به إذ ذاك، كقوله تعالى [البقرة: ٢٨٦]، وبقوله - ﷺ - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟) قال: بكتاب الله، قال: (فإنْ لم تجد؟) قال: بسُنَّة رسول الله، قال: (فإنْ لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي. فضربه رسول الله - ﷺ - على صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله، لما يرضي رسول الله) (١).
وأجابوا على الدليل الثالث بقولهم: نعم هذا صحيح أنَّ الله أوكل البيان إليه - ﷺ -، ولكنه مات ولم يبيِّن كل شيء، فما ورد بيانه عنه - ﷺ - ففيه الكفاية عن بيان غيره، وما لم يرد عنه بيانه ففيه لأهل العلم بعده حقّ البيان، والتّوضيح؛ لأنَّه سبحانه يقول في آخر الآية [النحل: ٤٤].
وأجابوا عن الدليل الرابع الذي ورد في حديث الترمذيّ بقولهم: إنَّه أراد بالرَّأْي الرَّأْي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أمَّا الذي يسنده البرهان ويشهد له الدليل فالقول به جائز. فالنهي على هذا متناول لمن كان يعرف الحقّ ويميل إلى غيره مسايرة لطبعه وهواه، فيتناول القرآن ليحتج به على تصحيح رأيه الذي يميل إليه ولو لم يكن ذلك الرَّأْي والهوى، لما لاح له هذا المعنى الذي حمل القرآن عليه.

(١) سنن الترمذي، كتاب الأحكام، برقم ١٢٤٩، وقد ورد هذا الحديث بروايات غير هذه.


الصفحة التالية
Icon