واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه:
أولها: أنَّ طبيعة الارض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوابنها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.
قالت الفلاسفة: الجبال إنّضما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالمك لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكانل التسخين أقوى، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال، وهذا ضعيفٌ من وجوه:
الأول: أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ؟.
الثاني: أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه.
الثالث: أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة، وبهذا التقدير: أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السب بالذي ذكروه ضعيف.
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع: ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال: وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في