الذي تشربونه صديداً، بل مثله في النَّتنِ، والغلظ، والقذارة، كقوله تعالى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل﴾ [الكهف: ٢٩].
والثاني: أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء، وهو قول ابن عطية، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظرٌ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود، أخذه من الصَّدِّ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه، أي: يمتنع عليه كل أحد.
الثاني: أنه عطف بيان ل «مَاءٍ»، وإليه ذهب الزمخشري، وليس مذهب البصريين [جريانه] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً.
الثالث: أن يكون بدلاً، وأعرب الفارسي «زَيْتُونةٍ» من قوله تعالى ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾
[النور: ٣٥] عطف بيان أيضاً.
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.
والصَّديد: ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل: ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ.
قوله: «يتَجرَّعهُ» يجوز أن تكون الجملة صفة ل «مَاءٍ» وأن تكمون حالاً من الضمير في «يُسْقَى»، وأن تكمون مستأنفة، وتجرَّع: «تَفعَّل» وفيه احتمالات:
أحدها: أنه مطاو ل «جَرَّعْته» نحو «علَّمتهُ فتعلَّمَ».
والثاني: أنه يكون للتكلف، نحو «تحَلَّم»، أي: يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثالث: أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي: يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم.
الرابع: أنه بمعنى جرع المجرد، نحو: عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه.
والمعنى: يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ.
قوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ في «يَكادُ» قولان:
أحدهما: أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي: يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقومُ أي: قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] أي: فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ [الحج: ٢٠] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة. وقوله: «يَتجرَّعهُ» يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.