مقاتل: علم كيف يخلق كل شيء من قولك: فلانُ يُحْسِنُ كذا، إذا كان يعلمه. وقيل: خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه. واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله: ﴿خلق السموات والأرض وما بينهما﴾ أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين﴾ يعني آدم، ويمكن أن يقال: الطين ماء وتراب مجتمعان، والأأدمي أصله مَنِي، والمَنِي أصله غذاءٌ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية (والحيوانية ترجع إلى نباتية) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ﴾ أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من طين، ونسله من سلالة ﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ أي ضعيف وهو نطفة الرجل «ثُمَّ سَوَّاهُ» سوى خلقه ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ يعني آدم؛ لأن كلمة «ثُمَّ» للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، ثم عاد إلى ذريته فقال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار﴾ (أي جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار) والأفئدة ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه، فقوله ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع﴾ هذه التفات من ضمير (غائب) مفرد في قوله: «نَسْلَهُ» إلى آخره إلى خطاب جماعة.
وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ خاطبه من بعد وقال: «وَجَعَلَ لَكُمْ».
فإن قيل: الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠].
فالجواب: هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً، ثم خَلْقاً مسوى بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض.
فإن قيل: ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ؛ لأن المصدر لا يجمع؟
فالجواب: أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المَرْئِيّ