فقالوا: النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على] أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فها هنا كان جاهلاً، ثم بدا له ذلك، [وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً] فثبت أن النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وهما مُحَالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، [فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً]، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ﴾.
وتقديره: أن الجهات كلها لله - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكاً ومِلْكاً، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ جعلها قبلة، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة.
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان:
الأول: لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعظّمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة.
وثانيها: أن الكعبة منشأ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع، والمفضي إلى المطلوب مطلوب].


الصفحة التالية
Icon