بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً، وإنْ أُريد بالنَّجْوى: المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ؛ كأنه قيل: إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلٍّ «مِنْ» وجهان:
أحدهما: الخَفْضُ بدل من «نَجْوَاهُم» ؛ كما تقول: «ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ».
والثاني: النَّصْب على الاستِثْناء [كما تقول: «مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ، على الاستثناء؛] لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى: المُتناجين، كان مُتَّصِلاً، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل، بشرط توجُّه العَامِل عليه، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً، وهو المختار، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء، فقوله» إلا مَنْ أمَر «: إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من» كثير «، أو من» نجواهم «، أو صِفَةٌ لحدهما؛ كما تقُول:» لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد «إنْ [شئت] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا» لِكَثير «قال: إلا نَجْوَى مَنْ أمَر، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من» كَثِيرٍ «؛ كما تقُولُ:» لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ «وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه: النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز، أو على أصْلِ الاستثناءِ، والجرُّ على البَدَل من» كَثِير «، أو من» نَجْوَاهُم «، أو على الصِّفَةِ لأحدهما.
و «مِنْ نَجْوَاهُمْ» متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «كثير» في مَحَلِّ جَر.
فصل
إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة؛ لأن عَمَل الخَيْر، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ، أو بدفع المَضَرَّة، وإيصال الخَيْر:
إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة، وهو إعْطاء المَالِ، وإليه الإشارة بقوله: «إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ».
وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية، وإليه الإشارة بقوله: «أَوْ مَعْرُوفٍ».
وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله: ﴿أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس﴾.
قوله «بَيْن» يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح، تقول: أصْلَحْت بَيْن القَوْم، قال - تعالى -: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٠]، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح.