فصل


قال بَعْض النّصَارى: لما جاز إطلاق اسم الخَلِيل على إنْسَانٍ معيَّنٍ على سبيل الإعْزَازِ والتَّشْرِيف فلم لا يَجُوز إطْلاق الابْن في حَقِّ عيسى - عليه السلام - على سبيل الإعزاز والتشريف؟
وجوابُهم: أن الفَرْق بَيْنَهُما: بأن الخليل عِبَارةٌ عن المَحَبَّة المُفْرِطَةِ، وذلك لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّة، وأما الابْنُ: فإنه يُشْعِر بالجِنْسِيَّة، وجلَّ الإله عن مُجَانَسَة المُمْكِنات، ومشَابهة المُحْدَثَات.
في تعلُّق الآيَة بما قَبْلَها وُجُوه:
أحدها: [أن المعنى] أن الله لم يَتَّخِذْ إبْرَاهِيم خليلاً لاحتياجه إلَيْه في شَيْءٍ كخلةِ الآدميِّين، وكيف يُعْقَل ذلك، وله مُلْك السَّموات والأرض، وإنما اتَّخَذَهُ خليلاً لمحض الكَرَم.
وثانيها: أنَّه - تعالى - ذكر من أوَّل السُّورة إلى هذا المَوْضِع أنْواعاً كَثِيرَة من الأمر والنَّهْي، والوعْد والوَعيد، وذكر في هَذِه الآيَة أنَّه إلَه المُحْدَثَاتِ، وموجِدُ الكائِنَاتِ، ومن كان مَلِكَاً مطاعاً، وجب على كُلِّ عاقلٍ أنْ يَخْضَعَ لتكاليفه، ويَنْقَادَ لأمْرِه.
وثالثها: أنه - تعالى - لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ، ولا يمكن الوَفَاءُ بهما إلا بأمْرَيْن:
أحدهما: القُدْرةُ التَّامَّة [المتعلِّقة] بجميع الكَائِنَات والمُمْكِنَات.
والثاني: [العِلْم] المتعلِّق بجميع الجُزْئِيَّات والكُلِّياتِ؛ حتى لا يَشْتَبِه عليه المُطِيعُ، والعَاصِي، والمحسن والمُسِيءُ؛ فدلَّ على كَمَال قُدْرَته بِقَوْله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾، وعلى كَمَال عِلْمِهِ بقوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً﴾.
ورابعها: أنه - تعالى - لمّا وصَفَ إبْراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه خَلِيلُه، بين أنَّه مع هذه الخُلَّة عَبْدٌ لَهُ، وذَلِك أنَّ له مَا فِي السَّمواتِ ومَا في الأرْض، ونَظِيرُه قوله تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾ [مريم: ٩٣] ويجري مُجْرَى قوله: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون﴾ [النساء: ١٧٢] يعني: أنَّ الملائكة مع كَمَالِهِم في صِفَةِ القُدرةِ، والقوَّة في صِفَة العِلْم والحِكْمَة، لم


الصفحة التالية
Icon