… للعلماء ثلاثة أقوال أو إصطلاحات في التعريف فمنهم من أتخذ المكان أساساً، ومنهم من اتخذ الخطاب والمخاطبين به أساساً، مثل إذا قيل يا أيها الناس فهو مكي، وإذا قيل يا أيها الذين آمنوا فهو مدني، غير أنهم إجتمعوا علي التعريف الثالث وهو : ما أتخذ الزمان أساساً فقالوا : أن المكى هو كل ما نزل قبل هجرة النبي صلي الله عليه وسلم حتي ولو كان شئ منه نزل خارج مكة، والمدني هو كل ما نزل بعد هجرته صلي الله عليه وسلم إلي المدينة حتى ولو كان نزوله خارجها بل حتي ولو كان نزوله في مكة ذاتها كالذي نزل بعرفة يوم حجة الوداع، وهذا هو الإصطلاح المشهور وهو الأصح لأنه أتي ضابطاً وحاصراً وهو ما كان يقصده الصحابة أيضا لأنهم عدوا التوبة والفتح والمنافقون قرآن مدني، ومعلوم أن التوبة لم تنزل كلها بالمدينة بل كثيراً منها نزل والرسول صلي الله عليه وسلم في طريق عودته من تبوك، وسورة الفتح نزل علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في طريق عودته من صلح الحديبية، وكذلك نزلت سورة المنافقون وكان صلي الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق وهذا ما قال به ابن عطية، والحافظ بن كثير، والعلامة البقاعي، والزركشي والسيوطي.
… ولا سبيل إلي معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين، فقد كان القرآن ينزل في زمانهم وهم يشاهدون الوحي والتنزيل والمكان والزمان وأسباب النزول عياناً، وليس بعد العيان بيان، وهذا ما كان يقصده سيدنا عبد الله بن مسعود حين يقول :
( والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه )