وعبر عن ذلك ابن خلدون-رحمه الله تعالى- فقال: "وصنفٌ مفطورٌ على الانسلاخ من البشرية جملة، جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم، وسماعُ الكلام... (١)، والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- جعل الله - عز وجل - لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي فطرةً فطرهم الله - سبحانه وتعالى - عليها، وجِبِّلَةً صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن، وعوائقه، ما داموا ملابسين لها بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد، والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة، تكشف بتلك الوجهة، فهم يتوجهون إلى ذلك الأُفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا، بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب، ولا صناعة، فلذا توجهوا، وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك عن الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا (٢) به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد" (٣).
(٢) أي مالوا وعادوا به بعد سماعه في طبيعة البشر.
(٣) عبد الرحمن بن خلدون ت ٨٠٨ هـ: مقدمة ابن خلدون ٩٨، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، مراجعة: د. سهيل زكار، ط ١٤١٧هـ، ١٩٩٦م - دار الفكر - بيروت، وإن كان التعبير عن هذه الحالة الدقيقة التي يكون فيها الرسول متصلاً بالملَك بحاجة إلى حذر في الكلمة خشية التزيد أو الإيهام، ولذا فقول ابن خلدون: "متى شاءوا " فيه نظر كبير بل متى أذن الله - عز وجل - لهم، فجاءهم الملَك لا أنهم هم يذهبون... ولعل من حكم ذلك بقاء صبغتهم البشرية أغلب حتى لا تكون حجة في عدم الاقتداء...