ولذا فإن الهيئة الأخرى -وهو المجيء في صورة رجل- ليست خاصة بالأنبياء بل يشترك فيها غيرهم، وقد كلمت الملائكة مريم بنت عمران، وليست بنبية عند الجمهور (١)، كما كلم الملَك هاجر أم إسماعيل: فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - :(فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه -أو قال- بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا... فقال لها الملَك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله... ) (٢).
وهل يتنافى هذا مع كون القرآن ميسراً للذكر كما في قوله - عز وجل - ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ "القمر/١٧"؟ لا؛ لوجوه:
أولها: أن الحديث آتٍ عن كيفية إيصاله من الملأ الأعلى إلى الأرض لا ما بعد ذلك، إذ قد يقال يُسر عند انتقاله من بشر إلى بشر، على أن التيسير المذكور في الآية ينصرف إلى المعنى قبل اللفظ، بدليل ذكر علة التيسير (للذكر).
وثانيها: قد يُنازع في الأول، فالثاني واضح وهو: أن أعظم الكلام قد صيغ بأيسر الأساليب المفهومة، وإذا قورن بما ورد في معلقة امرئ القيس عُلِمَ مقدار تيسيره، مع أنه لا يستطاع مثله فذا وجه ثانٍ في توجيه الآية.
وثالثها: أن ما ذكر من المقتضى المنهجي قد صُرِّح فيه أن مراده استشعار ثقل القول، لا أنه عند حفظه ثقيل، ويدل له أنه لا يعرف كتاب سماوي، ولا أرضي تيسر حفظه كالقرآن، بل المقارنة هنا لا تتم لشدة البون بين المقارن بينهما (٣)، وهو قوله - سبحانه وتعالى - ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ "الدخان/٥٨".
(٢) صحيح البخاري ٣/١٢٢٧، مرجع سابق، وقد صرح برفعه في أثناء الحديث.
(٣) وانظر في معنى الآية: روح المعاني ٢٧/١٢٩، مرجع سابق، والتحرير والتنوير ٢٧/١٧٩، مرجع سابق.