لكن الشأن هنا أعلى من الشأن في بقية العلوم النقلية، فلئن كانت تلك العلوم "كلها مستندةً إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقليٌ فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه" (١) فإن القياس هاهنا -لشدة ضبط التلقين للجوانب المختلفة للفظ القرآن الكريم، ولعدم كون الجزئيات حادثة ولا متعاقبة إذ كلها موجودة -كامنٌ في قياس مثالٍ على مثال ضمتهما قاعدةٌ كلية، وهو المعنى الذي أشار إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- في قوله في نفي القياس العام في تلقي القراءة:
وما لقياسٍ في القراءة مدخلٌ....... فدونك ما فيه الرضا متكفلاً
مع قوله في إثبات نوعٍ مخصوصٍ من القياس: "فاقتس لتنضلا" (٢) ؛ ولذا ترى كثرةً غامرةً من الجزئيات اللفظية القرآنية آتية على غير القياس المخصوص دلالة على أصلية النقل فيها، ولذا احتاج الدارس للقرآن إلى التلقين لزاماً، وأكد تلك الحاجة أن المصحف لم يُكْتَبْ ليوافق الخط اللفظ تماماً كما هو مقرر في علم الرسم بل لا بد من التلقي، وهو ما يجعل العمدة الأولى للقرآن من حيث هو قرآنٌ لا من حيث هو كتاب....

(١) المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون ٥٤٩، مرجع سابق.
(٢) انظر: (متن الشاطبية): باب الفتح والإمالة، وباب الراءات، مرجع سابق. وانظر: (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المقدسي: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار صادر - بيروت، والشيخ عبد الفتاح القاضي ت ١٤٠٣هـ: الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع، ط٥ -١٤١٤هـ –١٩٩٤م، مكتبة السوادي – جدة، مكتبة الدار – المدينة المنورة.


الصفحة التالية
Icon