ومن الإشارة إلى هذه المصدرية: ﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ : لم يقل فإنه نزله على قلبي مع أن محمداً - ﷺ - أُمِرَ بإخبار اليهود عن نفسه؛ لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرة مضافاً إلى كناية نفس المخبر عن نفسه إذا كان المخبر عن نفسه، ومرة مضافاً إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لأنه وإن كان مأموراً بقيل ذلك فهو مخاطبٌ مأمورٌ بحكاية ما قيل له (١)، كما قال الزمخشري موضحاً لذلك: "جاءت على حكاية كلام الله - عز وجل - كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدواً لجبريل - عليه السلام - " (٢). ولهذا حكمة عظيمة من حيث التأكيد على المصدرية الإلهية للقرآن، والدقة المتناهية في نقله من السماء إلى الأرض، فحكاية كلام الله - سبحانه وتعالى - اقتضت ﴿ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ بالخطاب... ولو قال (على قلبي) لقيل هذه دعوى، لم يبينها لنا ربك، ولم يقلها... ثم فيه تثبيتٌ لقلب الرسول - ﷺ -، وطمأنةٌ له من أن تزعزعه كثرة تشكيكات أهل الكتاب ومن والاهم، فكأن الخطاب من الله - عز وجل - للرسول - ﷺ - قصداً له، لا لخصومه من أهل الكتاب... وهم مقصودون تبعاً لا استقلالاً، وذا يوائم قوله - سبحانه وتعالى - ﴿... كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ... ﴾ "الفرقان/٣٢" ﴿ وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ "هود/١٢٠".
والكلام في الباء في قوله - سبحانه وتعالى - :﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ "البقرة/٩٧" مؤكد لما ذُكِر
هنا، وقد تقدم (٣).

(١) الطبري١/٤٣٦، مرجع سابق.
(٢) الكشاف ١/٨٤، مرجع سابق.
(٣) انظر: المبحث الثالث من هذا الفصل.


الصفحة التالية
Icon