فإذا حُلِلَ هذا الكلام ملياً من حيث تعريف الترتيل اللغوي، ومتضَمَّناته في الاستعمال العرفي حتى يتم الوصول إلى تقريبٍ لمقدار هذه التؤدة، وضبطٍ لذاك التمهل (١) ؛ إذ غير خافٍ أن إنشاد الشعر في المحافل عادةً لا يخلو من ترتيبٍ وتفاعلٍ بين المعنى والمبنى، وتريثٍ مع إسراعٍ يُعْرَفُ عند سماع الشعر، كما لا يخلو من نوع محاولة إلصاقٍ بآخر البيت لتتناغم أوزانها وكلماتها، وذاك حالةٌ بين السرعة المفرطة المُشَبَّهةِ بقراءة نشرات الأخبار، أو إلقاء خطب المنابر المُهَيِّجةِ للسامع، وبين الإبطاء الممل... فإذا كان هذا الإلقاء للشعر مذموماً، وهو بهذه المنزلة غير المتعجَلة الإلقاء نسبياً من حيث واقعُه، ظهر أن ترتيل القرآن الكريم يستلزم تأنياً أكثر، وتؤدةٌ أعظم، ومحاولة إظهارٍ للمبنى أجمل، تتكفل بإبداءٍ للمعنى أكمل، لا على حسابه كما هو معلوم، من غير مبالاة بإدراك نهايات الآيات، وخواتيم السور... وهذا الضبط لتلك التؤدة هو ما تسمعه من مهرة القراء في عصرنا كما في كل عصر، وهو ما عليه غالب حال المسلمين حتى الأميين منهم الذين لا يعرفون إلا بعض آيات يرددونها، فإنه يظهر تغير طريقة قراءتهم، ونبرات صوتهم إن كانت للقرآن الكريم (٢).
(٢) وهذا من أعظم أدلة التواتر، وهو ظاهرةٌ ليست بغريبة على المناهج المعرفية لدى المسلمين تدل على مقدار الحفظ الإلهي للكتاب الكريم.