وليضبط هذا التأني من الجهة المقابلة: إذ إن الاهتمام باللفظ على حساب المعنى، أو الغلو في التؤدة، أو الإفراط في التغني بالقرآن مداً، وابتداء، ووقفاً... يضاد غاية الترتيل، ويصبح اللفظ غاية بعد أن كان وسيلة، ويكون القرآن كتاباً للاستمتاع الموسيقي المجرد فحسب، وهو كتاب الهداية... فلا يَرِدُ على ما قُرِّرَ آنفاً ما انحدر إليه بعض متزعمي الإقراء، ومتصدريه في هذا الباب.
فإن اعتُرض بأن الرابط بين ما يرومه هذا المبحث من بيان متعلقات تعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - ﷺ - من حيث اللفظ وبين موضوع الترتيل غير واضح، ولا نص صريح في علاقة جبريل - عليه السلام - بالترتيل ؟.
فالجواب: كان الأمر بالترتيل مبكراً على سنن نزول الوحي، فقد كان جملة ما نزل من القرآن حين نزول أوائل سورة المزمل سورتين أو ثلاث على أصح الأقوال (١)، ويشير قوله - سبحانه وتعالى - فيها ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ "المزمل/٤" (٢) إلى أن القرآن بادئ بالنزول، وهذه بدايةٌ إضافية لا حقيقية أوجب تقريرها الكثرة الكاثرة لما سينزل من الوحي بعدها مقارنة بما سبق... ولما كان جبريل - عليه السلام - هو المقرئ لرسول الله - ﷺ - ما ينزل من القرآن، كما أنه الذي يعارضه به تعاهداً، ومراجعة، وتثبيتاً، فقد لزم أن يكون جبريل - عليه السلام - هو الذي يقرئه بالترتيل ابتداء، وهو ما صرح به في قوله - سبحانه وتعالى - ﴿... وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ "الفرقان/٣٢".
(٢) والقول الثقيل هو القرآن كما تقرر عند أئمة التفسير، انظر: التحرير والتنوير ٢٩/٢٦٠، مرجع سابق.