... ولا يُرتضَى القول بأن المراد بالترتيل في هذه الآية هو التفريق الزمني في الإنزال لقرينة سياق الآية، فأولها قوله - سبحانه وتعالى - ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً... ﴾ "الفرقان/٣٢"؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد (١)، وقد تقدم في سياق الآية التنبيه على تفريق القرآن زمنياً في إنزاله إلى الأرض من كلام الكفار مع إقرارهم على ذلك وبيان الحكمة منه، فصارت نهاية الآية دالةً على معنى آخر هو هيئة تلاوة القرآن، على أن العُرف الشرعي قاضٍ بأن لفظة (رتل) مستعملةٌ في هيئة أداء القرآن (٢) لا في تنجيمه، وقد تقرر في الأصول تقديم الحقيقة الشرعية والعرفية على اللغوية (٣)، فتحرر من هذا أن جبريل - عليه السلام - كان يقرئ النبي - ﷺ - القرآن بالترتيل.
ويختم هذا بالقول:
إن سورة المزمل قد نعتت بدقة الطبيعة الذاتية للقرآن الكريم ﴿ قَوْلا ثَقِيلا ﴾، وكيفية وصولها من السماء إلى الأرض ﴿ سَنُلْقِي ﴾، ووسيلة الاستعانة على تلقيه ﴿ قُمِ اللَّيْلَ ﴾، وهيئة النطق به، والوقت المختار لمراجعته، وبيان الأوقات التي تصرف في أمورٍ أخرى غير مراجعته وتعاهده... وإذ قد كانت هذه العناية الكثيرة الدقيقة... عُلِمَ مقدار التوقيفية في نقل لفظ القرآن الكريم.

(١) انظر مثلاً في علم أصول الفقه: نثر الورود ١/٢٢٥، مرجع سابق.
(٢) كما في قوله - عز وجل - ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ﴾ "المزمل/٣"، وقول النبي - ﷺ - (... اقرأ وارق ورتل... ) ويأتي تخريجه بعد قليل في هذا الفصل.
(٣) انظر مثلاً في علم أصول الفقه: نثر الورود ١/١٢٠، مرجع سابق، المستصفى ١/٣٤١، مرجع سابق، نهاية السول ٢/١٤٥، مرجع سابق.


الصفحة التالية
Icon