فإن اعتُرض بأن: الإلقاء هو هيئة أداء القرآن من جبريل - عليه السلام - للنبي - ﷺ -، ولا دليل أصرح فيه من آية المزمل ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي ﴾، والإلقاء هو رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيءٌ لقىً: أي مطروح، وإذا كان كذلك فهو لا يفيد التمهل.
فالجواب: عن هذا الإيراد:
١- غاية ما يدل عليه أصل الوضع اللغوي لمادة ألقى هو الطرح، فأين اقتران السرعة معه أو عدم اقترانها؟، على أن الحقيقة العرفية مقدمةٌ على الوضع اللغوي.
٢- لا يضرب دين الله - سبحانه وتعالى - بعضه ببعض، بل يؤخذ هذا الدليل مجموعاً إليه بقية الأدلة السابقة والمقترنة، فيكون النقل محققاً، والتقرير مصدقاً.
٣-الإلقاء في آية المزمل مستعارٌ لمعنى الإبلاغ الذي يأتي دفعة واحدة لأن النبي - ﷺ - لم يكن متوقعاً له، ولا مترقباً حدوثه، فأُريد تنبيهه على كمية المُلقى عليه من خلال ما يشعر به لفظ (نلقي) ليقدر الأمر حق قدره، فاستعير الإلقاء للإبلاغ دفعةً على غير ترقب (١).
ويدل على أنه ليس المراد بالإلقاء القذف دون تمهلٍ: ورود التعبير عنه في السنة بالنبذ (فينبذه إلي) وذلك عندما يتمثل الملك له رجلاً، وهذا الوصف يضاد معنى القذف السريع؛ إذ أن الرجل عندما ينبذه إليه إنما ينبذه في لغة البشر ولا يقتضي ذاك السرعة، وقد ورد التعبير عن الكلام بالإلقاء في قوله - سبحانه وتعالى - ﴿ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ "النحل/٨٦"، ومنه قوله - عز وجل - ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ "طه/٨٧"، وتقدم تفصيل ذلك في المبحث السابع.
على أن هذا الإيراد غريبٌ في مدخله، من حيث أن الوحي يستلزم السرعة وإلا لا يسمى وحياً، ويرد فيه ما سبق، ثم إن السرعة واضحٌ معناها في النسبية (الإضافية) مقارنةٌ بفعل البشر، لا من حيث أنها سرعة مطلقة.

(١) التحرير والتنوير٢٩/٣١٧، مرجع سابق.


الصفحة التالية
Icon